فصل: تفسير الآية رقم (43):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (43):

{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [43/ 8]، وَفِي صَدْرِ سُورَةِ الرُّومِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [52/ 13].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي بَعْضِ الْمُنَاقَشَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [43/ 81].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ}.
الصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّاسُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ فِي الزُّبُرِ الَّتِي هِيَ صُحُفُ الْأَعْمَالِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ أَيْ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِمْ لَا يُتْرَكُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [18/ 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [3- 30].
وَالزُّبُرُ: جَمْعُ زَبُورٍ، وَهُوَ الْكِتَابُ. وَالْمُسْتَطَرُ مَعْنَاهُ الْمَسْطُورُ، أَيِ الْمَكْتُوبُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.

.تفسير الآية رقم (54):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ}.
أَيْ فِي جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [2/ 25]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [47/ 15].
وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ، وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ كَمَا هُنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ وَتَعْرِيفِهِ، وَإِضَافَتِهِ، وَأَكْثَرْنَا أَيْضًا مِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [22/ 5]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.سُورَةُ الرَّحْمَنِ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

.تفسير الآية رقم (1):

{الرَّحْمَنُ (1)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ}.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ- جَلَّ وَعَلَا- كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [25/ 60]، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفُرْقَانِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}. أَيْ عَلَّمَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَتَلَقَّتْهُ أُمَّتُهُ عَنْهُ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ رَدَّ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [16/ 10 3]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [74/ 24]، أَيْ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [25/ 4- 5].
فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ، بَلِ الرَّحْمَنُ- جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [25/ 6]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [11/ 1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [41/ 1- 4]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [7/ 52]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [20/ 113]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [25/ 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [75/ 17- 19]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [42/ 52]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [12/ 3]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [4/ 113]، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [2/ 185].
وَتَعْلِيمُهُ- جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [35/ 32].
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [18/ 1]، وَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِخَلْقِهِ- جَلَّ وَعَلَا- فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [28/ 86]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [44/ 5- 6]، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَالزُّخْرُفِ.
عَلَّمَ الْقُرْآنَ حَذَفَ فِيهِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي، كَمَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ، وَالصَّوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ، مِنْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الْأَوَّلُ، وَتَقْدِيرُهُ: عَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: جِبْرِيلَ، وَقِيلَ: الْإِنْسَانَ.

.تفسير الآية رقم (3):

{خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ خَلْقَ الْإِنْسَانِ وَتَعْلِيمَهُ الْبَيَانَ مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِ اللَّهِ الْبَاهِرَةِ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ النَّحْلِ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [16/ 4]
وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [36/ 77].
فَالْإِنْسَانُ بِالْأَمْسِ نُطْفَةٌ وَالْيَوْمَ هُوَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَشِدَّةِ الْخِصَامِ يُجَادِلُ فِي رَبِّهِ وَيُنْكِرُ قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ، فَالْمُنَافَاةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي بَيْنَ النُّطْفَةِ وَبَيْنَ الْإِبَانَةِ فِي الْخِصَامِ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ وَجَعَلَهُ خَصِيمًا مُبِينًا؛ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ- جَلَّ وَعَلَا- دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الْبَعْثَ مِنَ الْقُبُورِ حَقٌّ.
وَقَوْلُهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَلَقَ الْإِنْسَانَ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَطْوَارَ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْفَلَاحِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [23/ 12- 14]، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ أَطْوَارَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْأَحْكَامِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [22/ 5]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ مَعْنَى النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ فِي اللُّغَةِ.
وَقَوْلُهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ التَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيَانِ الْإِفْصَاحُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ.
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْبَيَانَ قَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ} [16/ 4]، وَ: {يس} [36/ 77]، وَقَوْلُهُ: مُبِينٌ عَلَى أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلِ أَبَانَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِلتَّعْمِيمِ، أَيْ مُبِينٌ كُلَّ مَا يُرِيدُ بَيَانَهُ وَإِظْهَارَهُ بِلِسَانِهِ مِمَّا فِي ضَمِيرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ رَبُّهُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ، وَعَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مَنْ أَبَانَ اللَّازِمَةِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، أَيْ: بَيِّنُ الْخُصُومَةِ ظَاهِرُهَا، فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيَّنَ الْخُصُومَةِ إِلَّا لِأَنَّ اللَّهُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- عَلَى الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ آلَةَ الْبَيَانِ الَّتِي هِيَ اللِّسَانُ وَالشَّفَتَانِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [90/ 9].

.تفسير الآيات (5-6):

{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}.
الْحُسْبَانُ: مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ، كَمَا زِيدَتْ فِي الطُّغْيَانِ وَالرُّجْحَانِ وَالْكُفْرَانِ، فَمَعْنَى بِحُسْبَانٍ أَيْ بِحِسَابٍ وَتَقْدِيرٍ مِنَ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَنِعَمِهِ أَيْضًا عَلَى بَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ بِهِ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ وَالْأَيَّامَ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعِدَدَ النِّسَاءِ اللَّاتِي تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ، كَالْيَائِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [10/ 5].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [17/ 12].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}.
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: النَّجْمُ هُوَ مَا لَا سَاقَ لَهُ مِنَ النَّبَاتِ كَالْبُقُولِ، وَالشَّجَرُ هُوَ مَا لَهُ سَاقٌ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ هُوَ نُجُومُ السَّمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي سُورَةِ الْحَجِّ صَرَّحَ بِسُجُودِ نُجُومِ السَّمَاءِ وَالشَّجَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ سُجُودَ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنَ النَّبَاتِ بِخُصُوصِهِ. وَنَعْنِي بِآيَةِ الْحَجِّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} الْآيَةَ [22/ 18].
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنَّ السَّاجِدَ مِنَ الشَّجَرِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ هُوَ النُّجُومُ السَّمَاوِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ مَعَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ. وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ، وَعَلَى هَذَا الَّذِي اخْتَرْنَاهُ فَالْمُرَادُ بِالنَّجْمِ النُّجُومُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّجْمِ،
وَأَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ، وَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ لِإِطْلَاقِ النَّجْمِ وَإِرَادَةِ النَّجْمِ- قَوْلَ الرَّاعِي:
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ ** سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا

وَقَوْلَ عَمْرِو بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى ** بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبَ أَتْرَابِ

ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا ** عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَا وَالتُّرَابِ

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: يَسْجُدَانِ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [13/ 15].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}.
قَوْلُهُ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ ق فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} الْآيَةَ [50/ 6].

.تفسير الآيات (10-12):

{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)}:
وَقَوْلُهُ: {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} الْآيَةَ [42/ 17].
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [6/ 152]، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الشُّورَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}.
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ وَضَعَ الْأَرْضَ لِلْأَنَامِ وَهُوَ الْخَلْقُ، لِأَنَّ وَضْعَ الْأَرْضِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الشَّكْلِ الْعَظِيمِ، الْقَابِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَنْهَارِ وَحَفْرِ الْآبَارِ وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَدَفْنِ الْأَمْوَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَنَافِعِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ وَأَكْبَرِ الْآلَاءِ الَّتِي هِيَ النِّعَمُ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [55/ 13].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنِ امْتِنَانِهِ- جَلَّ وَعَلَا- عَلَى خَلْقِهِ بِوَضْعِ الْأَرْضِ لَهُمْ بِمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَجَعْلِهَا آيَةً لَهُمْ، دَالَّةً عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ رَبِّهِمْ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الْآيَةَ [13/ 3].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} الْآيَةَ [67/ 15].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [79: 30- 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [51/ 48]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} الْآيَةَ [2/ 22].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} الْآيَةَ [50/ 7].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [2/ 29]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فِيهَا فَاكِهَةٌ أَيْ فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَأَوْضَحْنَا ذَلِكَ بِالْآيَاتِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} ذَاتُ أَيْ صَاحِبَةٌ، وَالْأَكْمَامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الْكَافِ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ مِنَ النَّخْلَةِ فِي ابْتِدَاءِ إِثْمَارِهَا، شِبْهَ اللِّسَانِ ثُمَّ يَنْفُخُ عَنِ النَّوْرِ، وَقِيلَ: هُوَ لِيفُهَا، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ شُمُولَهُ لِلْأَمْرَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: {وَالْحَبُّ} كَالْقَمْحِ وَنَحْوِهِ.
وَقَوْلُهُ: {ذُو الْعَصْفِ} قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [105/ 5]، وَقِيلَ: الْعَصْفُ التِّبْنُ.
وَقَوْلُهُ: {وَالرَّيْحَانُ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ كُلُّ مَا طَابَ رِيحُهُ مِنَ النَّبْتِ وَصَارَ يُشَمُّ لِلتَّمَتُّعِ بِرِيحِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الرَّيْحَانُ الرِّزْقُ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّجْمِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ:
فَرَوْحُ الْإِلَهِ وَرَيْحَانُهُ ** وَرَحْمَتُهُ وَسَمَاءٌ دُرَرْ

غَمَامٌ يُنَزِّلُ رِزْقَ الْعِبَادِ ** فَأَحْيَا الْبِلَادَ وَطَابَ الشَّجَرْ

وَيَتَعَيَّنُ كَوْنُ الرَّيْحَانِ بِمَعْنَى الرِّزْقِ عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمَا فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَرَأَهَا نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ: وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَالذَّالِ وَالنُّونِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فَاكِهَةٌ أَيْ: فِيهَا فَاكِهَةٌ، وَفِيهَا الْحَبُّ إِلَخْ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ: {وَالْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ}، بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالذَّالِ وَالنُّونِ مِنَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، وَفِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ الشَّامِيِّ: {ذَا الْعَصْفِ} بِأَلْفٍ بَعْدِ الذَّالِ، مَكَانَ الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَتِهِ: وَخَلَقَ الْحَبَّ ذَا الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانِ، وَعَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ- فَالرَّيْحَانُ مُحْتَمِلٌ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ.
وَقِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ بِضَمِّ الْبَاءِ فِي الْحَبُّ وَضَمِّ الذَّالِ فِي ذُو الْعَصْفِ وَكَسْرِ نُونِ الرَّيْحَانِ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ، وَعَلَى هَذَا فَالرَّيْحَانُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَشْمُومَ؛ لِأَنَّ الْحَبَّ الَّذِي هُوَ الْقَمْحُ وَنَحْوُهُ- صَاحِبُ عَصْفٍ وَهُوَ الْوَرَقُ أَوِ التِّبْنُ، وَلَيْسَ صَاحِبَ مَشْمُومٍ طِيبُ رِيحٍ.
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَصْفِ مَا تَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ مِنْ وَرَقٍ وَتِبْنٍ. وَالْمُرَادُ بِالرَّيْحَانِ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنْ نَفْسِ الْحَبِّ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [79/ 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} [32/ 27].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [20/ 53- 54]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} الْآيَةَ [16/ 10- 11].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فِيهَا فَاكِهَةٌ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِيهِ مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْفَاكِهَةِ الَّتِي هِيَ أَنْوَاعٌ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَلَاحِ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [23/ 19]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [80/ 31]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالْحَبِّ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [50/ 9]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا} [80/ 27- 28]، وَقَوْلهِ تَعَالَى: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [36/ 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا} الْآيَةَ [6/ 99]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [6/ 95]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالنَّخْلِ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [50/ 10]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الْآيَةَ [23/ 19]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ بِالرَّيْحَانِ عَلَى أَنَّهُ الرِّزْقُ كَمَا فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ- جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [40/ 13]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [10/ 31]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [67/ 21]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} الْآيَةَ [40/ 64]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
مَسْأَلَةٌ:
أَخَذَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [2/ 29]- أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَلَى الْأَرْضِ الْإِبَاحَةُ، حَتَّى يَرِدُ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِالْمَنْعِ، لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى الْأَنَامِ بِأَنَّهُ وَضَعَ لَهُمُ الْأَرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ فِيهَا أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْقُوتِ وَالتَّفَكُّهِ فِي آيَةِ الرَّحْمَنِ هَذِهِ، وَامْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ خَلَقَ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- لَا يَمْتَنُّ بِحَرَامٍ إِذْ لَا مِنَّةَ فِي شَيْءٍ مُحَرِّمٍ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِحَصْرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي أَشْيَاءَ مُعَيَّنَةٍ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} الْآيَةَ [6/ 145]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} الْآيَةَ [7/ 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ [6/ 151].
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا عَلَى الْأَرْضِ التَّحْرِيمُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَاحْتَجُّوا لِهَذَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ- جَلَّ وَعَلَا-، وَالْأَصْلُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَفِي هَذَا مُنَاقَشَاتٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، لَيْسَ هَذَا مَحِلَّ بَسْطِهَا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: هُوَ الْوَقْفُ وَعَدَمُ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَنْعٍ وَلَا إِبَاحَةٍ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ مَذَاهِبَ: الْمَنْعَ، وَالْإِبَاحَةَ، وَالْوَقْفَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الَّتِي خَلَقَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ لِلنَّاسِ- بِهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَفْعٌ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ كَأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ وَغَيْرِهَا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا ضَرَرٌ لَا يَشُوبُهُ نَفْعٌ كَأَكْلِ الْأَعْشَابِ السَّامَّةِ الْقَاتِلَةِ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ جِهَةٍ وَضَرَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، فَالتَّحْقِيقُ حَمْلُهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا. وَقَوْلِهِ: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ الْآيَةَ.
وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ لَا يَشُوبُهُ نَفْعٌ فَهِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ».
وَإِنْ كَانَ فِيهَا نَفْعٌ مِنْ جِهَةٍ وَضَرَرٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَلَهَا ثَلَاثُ حَالَاتٍ:
الْأُولَى: أَنْ يَكُونَ النَّفْعُ أَرْجَحَ مِنَ الضَّرَرِ.
وَالثَّانِيَةُ: عَكْسُ هَذَا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَسَاوَى الْأَمْرَانِ.
فَإِنْ كَانَ الضَّرَرُ أَرْجَحَ مِنَ النَّفْعِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ فَالْمَنْعُ لِحَدِيثِ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَلِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ أَرْجَحَ، فَالْأَظْهَرُ الْجَوَازُ، لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةَ تُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَأَلْغِ إِنْ يَكُ الْفَسَادُ أَبْعَدَا

أَوْ رَجِّحِ الْإِصْلَاحَ كَالْأُسَارَى ** تُفْدَى بِمَا يَنْفَعُ لِلنَّصَارَى

وَانْظُرْ تَدَلِّيَ دَوَلِيِّ الْعِنَبِ ** فِي كُلِّ مَشْرِقٍ وَكُلِّ مَغْرِبِ

وَمُرَادُهُ: تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، أَوِ الْبَعِيدَةِ مُمَثِّلًا لَهُ بِمِثَالَيْنِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ تَخْلِيصَ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِالْفِدَاءِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ قُدِّمَتْ عَلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَرْجُوحَةِ، الَّتِي هِيَ انْتِفَاعُ الْعَدُوِّ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ لَهُمْ فِدَاءً لِلْأُسَارَى.
الثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاعَ النَّاسِ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَةِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنَ الْعِنَبِ، فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِإِزَالَةِ الْعِنَبِ مِنَ الدُّنْيَا لِدَفْعِ ضَرَرِ عَصْرِ الْخَمْرِ مِنْهُ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ عَلَى تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَرْنَا قَدْ أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ مَا بِهِ يَجِيءُ الشَّرْعُ ** وَأَصْلُ كُلِّ مَا يَضُرُّ الْمَنْعُ

تَنْبِيهٌ:
اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يَقُولُونَ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْإِبَاحَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ نَاقِلٌ عَنْهُ.
وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلِ النَّاقِلِ عَنْهُ حُجَّةٌ فِي الْإِبَاحَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ تَشْدِيدَهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} الْآيَةَ [2/ 279]، وَكَانَتْ وَقْتَ نُزُولِهَا عِنْدَهُمْ أَمْوَالٌ مُكْتَسَبَةٌ مِنَ الرِّبَا، اكْتَسَبُوهَا قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ- بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ أَنَّ مَا فَعَلُوهُ مِنَ الرِّبَا عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، إِذْ لَا تَحْرِيمَ إِلَّا بِبَيَانٍ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [2/ 275]، وَقَوْلُهُ: مَا سَلَفَ أَيْ: مَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ. وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [4/ 22]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [4/ 23]. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِمَا فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ عَفْوٌ، لِأَنَّهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ.
وَمِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [9/ 115]، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الشِّرْكِ، وَاسْتَغْفَرَ الْمُسْلِمُونَ لِمَوْتَاهُمُ الْمُشْرِكِينَ عَاتَبَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} الْآيَةَ [9/ 113]- نَدِمُوا عَلَى الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُمْ لَهُمْ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ قَبْلَ بَيَانِ مَنْعِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ يُعْذَرُ بِهِ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [17/ 15]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَأَوْضَحْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.